منصور هائل
هو وجه الطفل.. وعقل العالم

وحدها تستطيع الفاجعة في منحنيات حركة هذه البلاد والمجتمع ان تمارس وبلا منازع ريادتها في انتاج واعادة انتاج الدراما المروعة لتعلن عن نفسها وهي تنقلب علينا وتغتال اجمل ما فينا وافضل من فينا وتخطف بشراهة مهلكة ما يندر ومن لا يتكرر من الناس في المجتمع!!

هكذا تتبدى الفاجعة حين لا تصوب مخالبها وسهامها الصدئة نحو من لا يسمى من الناس –في محيط يستدل فيه اكثر الناس على بعضهم بالاصابع وحين يلتمع في اوساطهم شهاب يدل على من يسمى ويحمل اسما ذا معنى ويرمز لهوية خاصة، فإن السهام توجه الى نبض قلبه ونخاع رأسه!!

ويبدو أن الفاجعة بذلك تحاول الطفو فوق تضاريس حياة مجتمعنا لتداهم أي تأسيس لمشروع اختراقي نبيل المقصد والمحتوى ومتجه نحو توضيب حالات الخصب والايداع والاشراق، لتأكيد مشروعية سيادة المعرفة الجديدة الهادفة اصلاح عطب العقل والتاريخ لمعافاة النمو المنتظم لمجتمعنا.

وإزاء حال كهذا لا يملك المرء إلا أن يرى –في الزبد الذي يعلو التموجات العابثة لانعطافات الحياة او في المنحنيات الوعرة لمسالك السيارات –شبح الموت او الشراك القاتلة للرواد من ذوي المواهب الرفيعة والمعارف الجديدة!!

ولربما يغدو من الطبيعي ان يكون مصير أي موهوب نادر وسط مجتمع ضيق ذرعا بالاذكياء من ابنائه هو الفناء الفيزيائي، لأنه جاء قبل مرحلته وعصره وصار خارج المألوف على عادات الكسل العقلي وغريبا على الناس والاشياء ولذلك فإذا أخطأ رأسه مشيئة بشرية جرداء ورعناء وغبية فإن الاشياء الجرداء والقاحلة تتضافر في هذا المنحى، ويمكن ان تقوم بنفس الدور حجر ناتئة في الطريق او صخرة في وضع عدواني غبي يتخاطر مع الغباء المحيط!!

ان المحير في الامر هنا يكمن في مأسوية واستباقية المنايا حينما تختطف الندرة المتوقدة من الناس في هذا الوطن، فماذا يمكن القول إزاء ما حدث لصديقنا الحبيب الدكتور أمين ناشر، الذي كانت حياته حافلة بالنجاح والاثمار، واستطاع ان يحتل المركز الاول بتفوقه العلمي منذ دراسته الابتدائية وحتى في انتهائه من الجامعة التي حصل فيها على المركز الاول ومنحته شهادة التفوق الرفيعة في لندن، ولم يثمله النجاح بقدر ما حفزه على مزاولة المهنة بمثابرة غامرة، ارتبط في مجراها العمل بالبحث وتوغل في المجتمع على مستوى الريف والمدينة وحاز على تقدير خيرة الاطباء داخل الوطن وخارجه وخلع عليه لقب الطبيب الاول في اليمن.

الحقيقة ان للدكتور أمين ناشر شخصية مترامية الضفاف وشاسعة الابعاد، فهو الانسان الذي يحمل وجه الطفل الصبوح وعقل العالم المجرب، وهو الامين لمهنته، والشغوف بالاكتشاف وهو صاحب الهمة العالية في دراسة فلسفة حياتنا في تكونها الجنيني عند التخلق في الاحشاء ومع الرضاعة وقبل الحبو والى مشارف اليفاعة، وكان بكل ذلك يقرأ بعينيه الثاقبتين تحولات المراهقة، ومضات العقل وخصائص نمو الاجسام والعقول، واخذت ابعاد الامور تتسع في ذهنه ليتمعن في دراسات اشمل لمجتمعه وهو مجتمع يعيش طفولة حقيقية بمعايير تخطت في ذهنه حد القياس العمري لأنه وجد اطفالا في الخمسين والستين لا تختلف امراضهم عن امراض ما بعد الرضاعة وما قبل المراهقة، وهنا لا يقتصر الامر على الجانب الصحي بقدر ما يتصل بأحكام معايير التاريخ والتطور الحضاري والمعرفي للناس.

ومن الثابت ان العالم الخاص بالدكتور امين قد وفر له مجاديف إبحار وأجنحة للتحليق ساعدته على تخطي العادات السائدة للمجتمع ولزملائه الذين كانوا يريدونه ان ينزل الى مستواهم لعدم مقدرتهم على الارتفاع الى مستواه، وما كان عليه إلا ان يتعذب في حالات كثيرة بمعاريج البلادة وبالتفاصيل الآنية المرهقة –التي تنتمي للعادات السياسية الضحلة- والغريبة عليه كإنسان حالم لا يتعاطى إلا كتابة تلك التقارير التي تخص حالات مرضية وتقبل في معظم عواصم الدنيا.

لقد انقذ الدكتور أمين ناشر حياة اناس لا تتسع عشرات الصفحات لذكر اسمائهم، ومن مختلف الاعمار وكان امين هو ذلك الموعد المؤجل لمن يخشى على طفله من وعكة، كما كان في ذات الوقت الموعد المؤجل والواعد بالعطاء الفذ للوطن اليمني بأكمله.

واذا كانت قد تساوت لدى الدكتور أمين لحظة الميلاد بلحظة الموت واليمن تمر بمخاض كبير، فإن هذه اللحظة العنيدة تظهره كمواطن خالد يمارس ارتقاءه في لحظة المخاض، ويزهد بنفسه عن الازدحام فيها ليحتفظ بتعدد الفصول والمدارات التي يتميز بها، لأنه ليس الطبيب المرموق والباحث المتعمق فحسب، بل انه تلك الموسوعة التي كانت تسير في دروب الاكتمال العملاق، وذلك ما يدركه من يشاهد «أمين» وهو يستمع لنبضات قلب طفل أو معزوفات الموسيقى الكلاسيكية أو من يسمعه وهو يتحدث عن حضارة الفراعنة والاهرامات وسيرة خوفو ووثبات السياسة ونزوات النفس لدى الملكة كليوباترا.

وختاما، اعتقد أني لن أفي مهما حاولت –بحق شخصية فذة بمستوى الدكتور أمين ناشر، وان كان إغراء الكتابة عن مواطن خالد مثله لا يحد ولا يوصف، ولسوف أحاول مرة ثانية وثالثة، وعشمي هو ان يعذرني فقيدنا أمين على هذه الكتابة المتعجلة التي لن تعجبه، فهو كبير القلب والسماحة من سجاياه الحميدة التي لا تحصى.

7 ابريل 1990م

هامش:

قبل رحيل الفقيد الغالي بأيام كان كاتب هذه السطور قد التقاه بالقاهرة، وخلال سويعات مرت كومضة برق استمع بذهول لهواجس وخواطر لا تنسى من قبل د. أمين الذي مازال يلمع في سماء لم تشهدها اليمن بعد، ويعد بأيام جميلة لن تأتي إلا محمولة على أجنحة كلمات لا تصدر إلا عن أمثال ذلك الأمين رحمه الله.

 

 

مقالات أخرى

عن تجربتي عن المسؤولية في بريطانيا واليمن

د.عبدالجليل الشعيبي

27 ابريل 94 …يوم غَدَرَ الغادرون

صالح علي الدويل باراس

في ذكرى تحرير المكلا .. انتصارات تتجدد في اجتثاث قوى الإرهاب

د . باسم منصور

المجلس الانتقالي الجنوبي والخيارات السياسية المتاحة

د. حسين العاقل